وهم الدولة المحدودة
كان أحد المبادئ الأساسية التي وجهت التصورات الأمريكية بخصوص نظام مابعد-صدام هو مبدأ "الدولة المحدودة" التي تتدخل بشكل مقيد جداً في الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكان الإطار الأيديولوجي الحاكم لفريق المحافظين الجدد وبعض قوى المعارضة العراقية آنذاك هو الانتقال بالعراق إلى نموذج "دولة ديمقراطية تقوم على اقتصاد السوق وتقطع مع الماضي الشمولي". ولكن من يتفحص الوضع اليوم لايمكنه إلا أن يلحظ الفجوة الواسعة بين تلك الرؤية وما انتهت إليه سنوات من التطبيق المختلف تماماً. الدولة اليوم هي المشغل الرئيسي للقوة العاملة، وهي تسيطر على معظم النشاط الاقتصادي ، وهي –مجدداً- تقوم بدور رئيسي في تشكيل العلاقات الاقتصادية-الاجتماعية لاسيما عبر ما تتيحه مواردها من فرص لبناء شبكات الزبائنية الاقتصادية وتحالفات السياسة ورأس المال.
الكثيرون من الذين نظَّروا لدور محدود للدولة استندوا على فهم خاطئ للمكانة التي احتلتها وتحتلها الأخيرة في العراق، وربما افترضوا أن الشمولية كانت مرحلة عابرة ولاتعكس أزمة هيكلية في علاقة الدولة بالمجتمع في هذا البلد. تم تناسي حقيقة أن الدولة في العراق وجدت حتى قبل أن يوجد "مجتمع سياسي عراقي" ، بل إن وظيفتها الأساسية كانت إيجاد هذا المجتمع . بهذا المعنى ، كانت الدولة هي علة وجود "الوطنية العراقية" وليس العكس ، وهي بقدر كبير التجسيد الأساسي لوجود "المجتمع السياسي العراقي" . وكما أثبتت أحداث التمرد في المناطق الشيعية والكردية عام 1991 والعنف الأهلي بعد 2003 ، فأن غياب الدولة أو ضعفها يقود سريعاً الى التشرذم الاجتماعي والصراع الهوياتي . والمشكلة هنا كانت دائماً في أن الدولة لم تحقق وجوداً مستقلاً كبيراً عن السلطة، وأن الأخيرة سعت دائماً إلى إلغاء أي فاصل بين الاثنين . امتلاك الدولة كان دائماً غاية المتصارعين السياسيين في العراق ، وهو غالباً ماتُرجِم بنوع من الامتلاك للمجتمع نفسه.
وربما يبرر كل ذلك التفكير بأهمية "الدولة المحدودة" كعلاج من شأنه أن يواجه تلك النزعة السلطوية لامتلاك الدولة ومن ثم قدرتها على السيطرة الاجتماعية. ولكن ممكنات تحقيق هذا الهدف تعيقها حقيقة أن الدولة في العراق هي المالك الأكبر للثروة الاقتصادية المتحركة عبر سيطرتها على الريع النفطي الذي يكاد يمثل المصدر شبه الوحيد للموارد الحكومية مع التدهور الهائل في الزراعة والغياب شبه الكلي للصناعة والسياحة .
عندما نص الدستور على أن "النفط هو ملك للشعب" جرى تفسير ذلك بطريقة آلية على أن الدولة هي التي ستتولى إدارة الثروة النفطية وعوائدها وهي التي ستقرر كيفية ترجمة "ملكية الشعب" لتلك الثروة. ولكن مجدداً، حيث الدولة لم تكن قد حققت بعد وجوداً مستقلا عن السلطة ، وحيث صراع الفرقاء السياسيين داخل مؤسسات الحكومة كان يستهدف السيطرة على أكبر حصة من مؤسسات الدولة ، بدا أن هنالك إعادة انتاج لميراث الماضي في العراق ولكن بطرق تعكس حالة الارتباك الحاضرة بسبب عدم حسم الصراع بين الفصائل. مثلت السلطة السياسية في معظم تاريخ العراق الحديث أداة لامتلاك و توزيع الامكانيات الاقتصادية، ويبدو أن تجربة العراق الحالية أعادت تأكيد لا نفي هذه الحقيقة .
شرَع الدستور لقيام مؤسسات مستقلة عن بعضها وآليات للضبط والمحاسبة ، كما تم توزيع السلطة بين مؤسسات فيدرالية وأخرى إقليمية أو لامركزية . كان يفترض بذلك أن يحد من إمكانية تمركز الموارد في أيدي أقلية معينة ومن قدرة هذه الأقلية على الاستحواذ على الدولة. لم تحل تلك التجربة دون نقل النزاع بين "العُصَب" السياسية إلى مؤسسات الدولة وتحويل الشراكة وتوزيع الصلاحيات إلى ما صار يعرف بنظام "المحاصصة" .
الأوليغارشية الجديدة
سعت معظم الأحزاب السياسية إلى النفاذ للمؤسسات القائمة أو الجديدة، بما في ذلك المؤسسات المستقلة ، ونجحت باستثمار هياكلها المنظمة وقربها من صنع القرارات الحكومية - منذ زمن مجلس الحكم الانتقالي- من أجل استغلال الوظائف الحكومية كأداة لتوسيع شبكاتها ومن تمويل نفسها عبر موارد الدولة. بدأ ذلك بخطوات بسيطة مثل دفع اعضائها الى احتلال مواقع في المؤسسات العسكرية والمدنية الجديدة، ثم تطور إلى توظيف تلك المواقع لاستخراج موارد عن طريق التعاقدات الرسمية ووسائل أخرى . وإذ كانت موارد النفط تزداد والقدرات المادية تتعاظم، كانت الفرص تكبر أمام الفساد السياسي والزبائنية والمحاباة حتى بات لدى معظم القوى الرئيسية قدرات كبيرة تمكنها من الاستمرار ومن تشغيل ماكنات فعالة للدعاية والتعبئة، كما بات لديها حلفائها من رجال الاعمال الذين تدخل معهم في علاقات تخادم موضوعها الأساسي العقود الحكومية، في الوقت الذي حققت بعض زعامات تلك القوى وقياداتها الوسطى إثراءاً كبيراً. مرة اخرى أخذت السلطة السياسية تقود الى التمكين الاقتصادي.
نوع من الاوليغارشية الجديدة بدأت بالتشكل ، ولكنها اوليغارشية منقسمة على نفسها بفعل انقساماتها الاثنية والطائفية وصراعات عناصرها العصبوية والشخصية على السلطة والنفوذ. افرزت المحاصصة حكومات فاشلة وغير قادرة على العمل وبدا ان دورها الوحيد هو أن تتحول الى أطرٍ لاستيعاب تلك الجماعات في ظل تقليد ازداد رسوخاً يقوم على قاعدة ان المنصب الحكومي هو جائزة للولاء وأن التمثيل السياسي لايجد تعبيره الكامل إلا في داخل الجهاز التنفيذي. وبسبب من شكواه بان المحاصصة تقيده وتجعل حكومته غير فعالة ، سعى المالكي إلى بناء مايشبه الحكومة الموازية عبر انشائه تشكيلات عسكرية وأمنية ومدنية خارج اطار نظام المحاصصة ، مستفيدا من عجز البرلمان في التوافق على إدارة بعض المؤسسات القائمة ومن منصبه كقائد عام للقوات المسلحة في "استحداث" مايراه مناسبا للقيام بهذه المهمة . ويبدو أن سلوك المالكي أعاد تكرار التقليد العراقي القائم على أن التحكم بالقوة العسكرية هو المدخل لتحقيق مزيد من السلطة السياسية ، خصوصاً وأن نفوذه بدأ يتسع إلى الميدان القضائي وإلى المؤسسات المستقلة في الوقت الذي كان البرلمان يؤكد عجزه عن أن يكون مؤسسة فعالة.
يشهد العراق اليوم هجيناً من المحاصصة والسلطوية وكليهما يمثل نتاجاً للدولة الريعية. وإذ يتعزز الصدام داخل الطبقة السياسية – الممولة من الريع النفطي – بفعل السياسات الاستحواذية التي تتبعها القوى المتنافسة ، يبدو أن أي من الخيارين الذين يطرحهما كل فريق غير قادر على إيجاد حل هيكلي لمعضلة الدولة الريعية ، تلك الدولة الغنية التي تتسيد على مجتمع فقير.
لقد أدت ظروف عدم الاستقرار الأمني والعنف في عدم تطور نشاط اقتصادي خاص ذا قيمة كبيرة ، وعلى الرغم من سياسات اللبرلة الاقتصادية التي تم اعتمادها من قبل إدارة بريمير والتي رفعت الكثير من القيود على الاستثمارات ومارافقها وتبعها من بيع لمؤسسات كانت تابعة للقطاع العام، فإن ظروف تطور قطاع خاص مستقل عن الدولة لم تنضج بعد. وفي الحقيقة فإن معظم الاستثمارات الكبيرة كانت تلك الممولة بأموال حكومية ، ومعظم رجال الاعمال الجدد بنوا ثروتهم من خلال العقود الحكومية وكثير منها كان يستحصل عبر العلاقات غير الرسمية مع النخب السياسية. ظل الجهاز الحكومي بشقيه العسكري والمدني يتسع باضطراد بعد أن أصبح القطاع العام هو المستوعب شبه الوحيد لليد العاملة، وهو ماخلق بطالة مقنعة مزمنة وعزز من الحلقات البيروقراطية الزائدة وعقد من إمكانية إصلاح الجهاز الحكومي الذي يعتريه الفساد والترهل وغياب التخطيط . وعبر الزبائنية السياسية صعدت إلى بعض المستويات العليا والمتوسطة قيادات لاتتمتع بالكفاءة والخبرة ، وحصلت عمليات واسعة للاستبدال الطائفي والمناطقي والحزبي التي أضافت أيضاً مزيداً من التوتر.
وفي مجتمع شاب مثل المجتمع العراقي يسجل واحداً من أعلى معدلات النمو السكاني في العالم (3.1%) ، ويعيش اكثر من 66% من سكانه في المدن ، وحيث هنالك ملايين من الشباب يدخلون سوق العمل سنويا ، اذ أن نسبة من تقل أعمارهم عن 14 عاماً تصل إلى حوالي 43% من السكان ، يعني استمرار الاتجاه الراهن والفشل في توفير فرص بديلة للتشغيل، أن السياسة القائمة تمهد لأزمة اجتماعية مستقبلية. فالإتجاه الراهن يفترض أن العراق سيواصل زيادة إنتاجه النفطي ، وسيطور بنيته التحتية الضرورية للتصدير بشكل جذري ، وأن أسعار النفط ستظل عالية، لكن في حالة عدم تحقق أحد هذه الافتراضات ، فسيكون على الدولة أما تخفيض الرواتب أو اتباع سياسات تقشفية حادة أو كليهما. سيؤدي ذلك إلى مزيد من التأزم الاجتماعي والسياسي وإلى نمو اتجاهات راديكالية جديدة وسط العاطلين عن العمل.
التحالف السياسي-المالي
بسبب هذه التطبيقات، حصلت في العراق تحولات مهمة على صعيد البنية الطبقية للمجتمع، وأخذ يبرز تحالف سياسي – رأسمالي يقوم على التخادم بين طبقة سياسية تستخرج عوائدها من سيطرتها على مفاصل الدولة ، وطبقة رأسمالية تستثمر علاقات الكفالة مع القوى السياسية لتعظيم أرباحها، خصوصا عبر الفرص التي تقدمها التعاقدات الحكومية. وبات لدى كل قوة سياسية رجال الأعمال الذين يسهمون في تمويل تلك القوى سياسياً وإعلامياً، ويستفيدون من سيطرتها على بعض مفاصل الدولة لتحويل تلك السيطرة الى عوائد اقتصادية ، وأحد أهم أبعاد الصراع السياسي الراهن يتعلق بالتنافس بين تلك التحالفات السياسية-الاقتصادية حول قدر أكبر من الريع . هنالك مثلاً من يشير إلى رجل الاعمال عصام الأسدي بوصفه حليفاً للمالكي ومستفيداً رئيسياً من سيطرة ائتلاف المالكي على مفاصل مهمة في السلطة ، إلى حد أنه وصف من قبل برلماني عراقي معارض بـ "أحمد عز الحزب الحاكم في العراق"، في إشارة لرجل الاعمال المصري المعروف الذي كان يتحالف مع نظام مبارك. ورغم صعوبة التحقق من المعلومات، إلا أن هنالك من يطرح أرقاماً فلكية فيما يخص حجم العقود المالية التي حصل عليها المذكور عبر علاقاته مع حزب المالكي ومع المجلس الأعلى سابقا.
في المقابل ، لاينكر رجل الاعمال خميس الخنجر ، انه لعب دورا رئيسيا في تشكيل القائمة العراقية وهنالك من ينظر اليه بوصفه رئيسها الفعلي ، ويتهم الخنجر من قبل خصومه بأنه أثرى عبر علاقته بنظام صدام حسين ، وتحديداً عدي صدام حسين ، وهو يرتبط بعلاقات تجارية مع أمراء خليجيين إلى حد أن هنالك من يعتبره ممثلاً للمصالح القطرية والتركية – وأحياناً السعودية – في العراق. وبين اسماء رجال الاعمال ذوي النفوذ السياسي ، يرد اسم أكرم زنكنة ، وهو شريك تجاري لاياد علاوي في إدارة شركة دانة النفطية ، ويتهمه البعض بأنه أيضاً كان واجهة تجارية لنافذين في النظام السابق، ومن الاحداث ذات الدلالة حول هذه الشراكة السياسية-الاقتصادية كانت لقاءاً جرى بين الرئيس الروسي بوتين وبين علاوي وشريكه التجاري ، وفي الوقت الذي اشار البيان الرسمي الروسي إلى أن اللقاء جرى مع ضيوف يمثلون إدارة شركة نفطية ، ادعى حزب علاوي أنه عقد الاجتماع بصفته رئيساً للقائمة العراقية وتداول مع الجانب الروسي في الشأن السياسي.
وقد برعت القوى الكردية بنسج علاقات من هذا النوع مع رجال أعمال عراقيين وأجانب، وقطع الحزب الديمقراطي الكردستاني شوطاً أبعد باتجاه الاستفادة من الريع النفطي سياسياً، كما حصل عبر العلاقة التي أُثير حولها الكثير من اللغط مع بيتر غالبريث الذي عمل بصفة مستشار لحكومة اقليم كردستان عام 2005 ولعب دوراً كبيراً في بلورة الموقف الكردي من موضوع إدارة الثورة النفطية خلال فترة المناقشات على مسودة الدستور، وقد حصل على أسهم هائلة في حقل نفطي كردي لقاء دوره في التفاوض مع شركة نرويجية للحفر في الحقل النفطي الواقع في محافظة دهوك. ويعتقد أن أحد دوافع إصرار حكومة إقليم كردستان على المضي بتعاقداتها النفطية بشكل منفرد، هو الريع المتأتي للنافذين فيها عن طريق العمولات المستقطعة في عملية التعاقد التي لا تتسم بنفس الشفافية في التعاقدات العلنية التي تجريها بغداد. وقد نجح الجانب الكردي باستمالة العديد من المسؤولين الأمريكيين السابقين الذين عملوا في العراق وانتقلوا بعد تقاعدهم إلى مجال الأعمال ، فأصبحوا مستشارين وشركاء يمكن توظيف نفوذهم وعلاقاتهم السياسية لمصلحة حكومة الاقليم .
إن لهذه التحالفات السياسية-المالية تأثيرين مهمين، الأول أنها تديم الصراع بين قوى سياسية تصبح بشكل أكبر ذات بنية برجوازية – أوليغارشية تكتسب الشرعية من التمثيل الطوائفي والإثني وتضلل جماهيرها عبر سياسات الهوية، والثاني أنها تسرع من عملية الانفصال الجارية في الجسد الاجتماعي العراقي بين الأقلية المستفيدة والأغلبية التي تضيق الفرص أمامها بفعل انعزال العملية السياسية بقدر متزايد عن الاحتياجات الشعبية، لتصبح ممثلة لصراعات النخبة.
يفسر ذلك أنه في الوقت الذي نجحت هذه النخب السياسية، بدعم من معظم القوى الدينية، بتعميق الشروخ الطائفية والاثنية، فإن هنالك اتفاقاً عابراً للهويات على المستوى الشعبي وحتى بين قطاعات واسعة من الانتلجنتسيا على فساد العملية السياسية الراهنة وعلى تزايد الشعور بلا جدواها. فحتى قوى سياسية- دينية تكتسب دعمها من قبل الشرائح الاجتماعية الأفقر، وتتبنى خطاباً ذا نزعة تطهيرية، مثل التيار الصدري ، أخذت تنخرط بعلاقات الزبائنية بشكل متزايد (وهو موضوع بحاجة لتفصيل طويل) .
لقد أصبحت استمرارية هذه الطبقة الاوليغارشية مقرونة باستمرار الإنقسامات الإثنية والطائفية التي تسمح لها بتكريس الوعي الزائف في أنها تمثل "هوية" و "مصالح" مكوناتها . ولكي يستمر هذا الانقسام ، فان العنف الطائفي الذي تقوم به تنظيمات طائفية وميليشيوية مثل تنظيم القاعدة ، يخدم في النهاية هذه الطبقة السياسية من حيث إسهامه بإعادة إنتاج الهويات الطائفية وبما يوفر البيئة النفسية الملائمة لاستمرارية هذه القوى السياسية ، وتواصل مراهنتها على الشروخ الاجتماعية، وبالتالي تعظيم قدرتها على النهب المستمر لثروات البلد.
إنها الاوليغارشية الجديدة. . .